سفينة حاويات عملاقة تعود للبحر الأحمر.. هل يبدأ الطريق التجاري العالمي بالتعافي؟

سفينة حاويات عملاقة تعود للبحر الأحمر.. هل يبدأ الطريق التجاري العالمي بالتعافي؟

محور بلس - بقش

بعد نحو عامين من الاضطرابات التي قلبت طرق التجارة البحرية رأساً على عقب، تستعد سفينة الحاويات العملاقة CMA CGM Benjamin Franklin للعبور عبر البحر الأحمر وقناة السويس، في لحظة تُعد اختباراً حقيقياً لعودة الملاحة في واحد من أهم الممرات البحرية في العالم.

السفينة التي تتسع لأكثر من 17,800 حاوية نمطية وتابعة لشركة CMA CGM الفرنسية تُعد أول سفينة بهذا الحجم تعود للمسار منذ أوائل عام 2024، وفق اطلاع مرصد “بقش” على بيانات موقع لويدز ليست البريطاني لأخبار الشحن.

وتُمثل هذه الخطوة تحولاً لافتاً بعد أشهر طويلة من الالتفاف عبر رأس الرجاء الصالح، وهو مسار أطول وأكثر تكلفة اعتمدته شركات الشحن العالمية لتجنب المخاطر الأمنية في البحر الأحمر. ورغم أن العبور لا يعني بالضرورة عودة كاملة للملاحة إلى ما كانت عليه سابقاً، إلا أنه يُعطي إشارة أولية بأن الثقة قد تكون بدأت في التشكّل من جديد، ولو بحذر.

ورغم ذلك، ما تزال الأنظار مركّزة على مسار السفينة وتحركها خطوة بخطوة، فالعالم التجاري يختبر الممر قبل اتخاذ قرار جماعي، بينما يراقب المحللون هذه الرحلة كعلامة على ما إذا كانت عودة كبار المشغلين ستحدث خلال الأشهر المقبلة أم تبقى مؤجلة إلى حين استقرار الأوضاع بشكل كامل.

انطلقت السفينة من ميناء ساوثهامبتون في 25 أكتوبر 2025، وتوقفت في ميناء الإسكندرية قبل أن تتجه نحو قناة السويس في طريقها إلى ميناء كلانغ في ماليزيا. هذه الحركة تمثل أول استخدام فعلي لسفينة بهذا الحجم للممر منذ يناير 2023، بحسب تتبع حركة السفن الدولية.

ويشير محللون نقلت عنهم Lloyd’s List Intelligence إلى أن هذه الرحلة ليست مجرد نقل بضائع، بل خطوة لقراءة المشهد الميداني وتقييم ما إذا كانت المنطقة باتت أقل خطراً على السفن التجارية. هذا التحرك يضع CMA CGM في مقدمة الشركات التي بادرت إلى اختبار الوضع، بينما تظل شركات شحن كبرى في حالة انتظار محسوب حتى تتضح الصورة الأمنية بشكل أكبر.

وتذكر تقارير الملاحة التي تتبَّعها بقش أن السفينة تعمل ضمن خدمة NEU4 التابعة لتحالف بحري يضم CMA CGM وCosco وEvergreen، وهي خدمة استراتيجية على خط آسيا وأوروبا، ما يجعل هذه الرحلة محطة رئيسية في تقييم عودة حركة التجارة إلى الممر البحري الطبيعي.

ولا يزال السؤال مفتوحاً حول ما إذا كانت هذه الرحلة ستتبعها أخرى أم ستبقى تجربة منفردة تحدد بعدها الشركات موقفها النهائي.

وفي المقابل، لا تزال شركات أخرى تفضل الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح رغم تكاليف الوقود والزمن، معتبرة أن أي مخاطرة حالياً قد تكون مكلفة أكثر مما قد توفره العودة إلى المسار التقليدي.

تزامنت هذه الخطوة مع دخول الهدنة في غزة حيز التنفيذ في 10 أكتوبر 2025، وهو عامل رئيسي ساهم في رفع مستويات الاطمئنان النسبي لدى بعض شركات الشحن. ووفق خبراء في النقل البحري، ساهم انخفاض المخاطر المباشرة في تشجيع CMA CGM على اتخاذ هذه الخطوة، خصوصاً بعد أشهر من التوترات والهجمات التي دفعت الشركات للانسحاب من البحر الأحمر.

لكن على الرغم من هذه الإشارة الإيجابية، لا يزال الهدوء هشاً، حيث سُجلت اشتباكات محدودة بعد الهدنة، الأمر الذي يزيد حالة الحذر لدى شركات الشحن. ويشير متخصصون في الملاحة البحرية إلى أنّ صناعة النقل لا تتعامل فقط مع حالة الهدوء الراهنة، بل مع توقعات استدامة هذا الهدوء، وهو ما لم يتحقق بالكامل بعد.

وتبقى الصورة غير مكتملة، فالتطورات السياسية المتسارعة في الشرق الأوسط تجعل شركات الشحن الدولي تتأنى قبل اتخاذ قرار العودة الكاملة إلى المسار عبر البحر الأحمر. ورغم أنّ سفينة بهذا الحجم تمثل عاملاً يعزز الثقة تدريجياً، إلا أن الطريق ما يزال طويلاً لإعادة النشاط التجاري إلى ما قبل الأزمة.

ولهذا ترى جهات اقتصادية أن هذه الرحلة هي جزء من عملية “اختبار ميداني” أكثر من كونها إعلاناً عن عودة كاملة، خاصة أن الأسواق البحرية تتحرك دائماً بناءً على إشارات صغيرة تتحول لاحقاً إلى قرارات استراتيجية إذا أثبتت التجربة نجاحها.

بيانات الملاحة تكشف حركة وعودة بطيئة

تكشف بيانات Lloyd’s List Intelligence أن عبور السفن الكبيرة عبر مضيق باب المندب وقناة السويس بدأ يسجل ارتفاعاً محدوداً مقارنة بعام 2024 حسب قراءة بقش، لكنه لا يزال بعيداً عن مستويات ما قبل الأزمة. وخلال الأشهر التسعة الأولى من 2025، لم تُسجَّل سوى 13 رحلة لسفن حاويات تتراوح سعتها بين 15 و16 ألف حاوية، وهو رقم ضئيل جداً مقارنة بمئات العبور التي كان الممر يشهدها سابقاً.

ومع ذلك، ترى المصادر البحرية أن ارتفاعاً بطيئاً أفضل بكثير من شلل كامل، وأن دخول سفينة عملاقة بهذا الحجم إلى المسار مرة أخرى سيراقبه السوق عن كثب. كما أن اعتماد CMA CGM سابقاً على مرافقة بحرية فرنسية في بعض رحلاتها يوضح حجم حرص الشركة، ويُبرز في الوقت نفسه أن الأمن ما يزال جزءاً أساسياً من معادلة اتخاذ القرار.

ويشير محللون اطلع بقش على تقديراتهم إلى أن شركات الشحن الكبرى لن تتسرع في العودة إلى البحر الأحمر، خصوصاً أن التكلفة العالية للالتفاف حول رأس الرجاء الصالح ما تزال أقل من تكلفة توقف سفينة أو تعرضها لمخاطر أمنية في البحر الأحمر. ولذلك، فإن العودة الكاملة قد لا تحدث قبل أوائل عام 2026 في أفضل السيناريوهات.

كما تؤكد تقارير النقل البحري أن السفن المتوسطة الحجم كانت أول العائدين بشكل محدود، بينما تبقى السفن العملاقة مثل Benjamin Franklin المؤشر الأهم على قدرة الممر على استعادة دوره العالمي تدريجياً.

هل نحن أمام بداية جديدة أم اختبار عابر؟

أهمية رحلة السفينة Benjamin Franklin تتجاوز حجمها ووجهتها؛ فهي تمثل محاولة لاستكشاف واقع جديد يتشكل بعد فترة طويلة من الإغلاق الجزئي للممر البحري. وإذا نجحت الرحلة دون حوادث أو تهديدات، فإنها قد تفتح الباب أمام موجة جديدة من العبور خلال الأشهر القادمة، بينما قد يؤدي أي توتر جديد إلى إعادة الأمور إلى نقطة الصفر.

ورغم أن CMA CGM كانت من الشركات القليلة التي واصلت الملاحة عبر البحر الأحمر خلال الأزمة، إلا أن إرسال سفينة بهذا الحجم يضع الشركة في موقع الريادة في اختبار جاهزية الممر البحري. ويعكس ذلك أيضاً رغبة شركات الملاحة العالمية في العودة إلى المسار الأقصر والأقل تكلفة بمجرد التأكد تماماً من مستوى الأمان.

عودة سفينة بهذا الحجم إلى البحر الأحمر خطوة ليست عادية، بل لحظة اختبار لصبر شركات الشحن العالمية وثقتها في استقرار المنطقة. ورغم أنها قد تبدو خطوة صغيرة مقارنة بحجم صناعة النقل البحري العالمي، إلا أنها تحمل قيمة رمزية كبيرة، لأنها تعني أن الطريق نحو التعافي بدأ، حتى وإن كان ببطء شديد.

بين المخاطر الأمنية والرغبة في تقليل تكاليف النقل وإعادة تشغيل المسار الأهم بين آسيا وأوروبا، يبقى السؤال مطروحاً: هل تتحول رحلة Benjamin Franklin إلى بداية فعلية لعودة الملاحة إلى طبيعتها، أم تبقى تجربة فردية تترقب السوق نتائجها قبل اتخاذ القرار النهائي؟ الوقت وحده سيجيب."