القوات المسلحة الجنوبية... من رماد الحرب إلى هيبة الدولة

القوات المسلحة الجنوبية... من رماد الحرب إلى هيبة الدولة

محور بلس/ خاص: تقرير|| عبدالباسط القطوي

عقب الانقلاب الحوثي في سبتمبر 2014، وجد الجنوب نفسه في مفترق طرق تاريخي، كانت صنعاء قد سقطت، وبدأت جيوش الانقلاب تجتاح المحافظات واحدة تلو الأخرى، فيما الحكومة اليمنية الشرعية بدت عاجزة عن حماية نفسها، الجنوب، الذي عانى من التهميش بعد حرب 1994، لم يكن يملك مؤسسات عسكرية جاهزة، ولا دعمًا مركزيًا يوفّر له مقومات الدفاع، بل كان خاضعًا لتفكيك ممنهج طال بنيته الأمنية والعسكرية على مدى عقود، ومع اقتراب ميليشيا الحوثي والقوات الموالية لصالح من تخوم عدن في مارس 2015، كانت الحقيقة قد حانت، فقد تخلّت وحدات الجيش والأمن التابع للنظام السابق في عدن عن مواقعها، وبعضها سلّمها دون قتال، ما فتح ثغرة مميتة في جسد الجنوب ذلك الانسحاب المفاجئ لقوات النظام من عدن لم يكن انهزام طبيعي كأي واقع حرب بل تجلٍّ لعقود من الولاء غير الوطني، والفساد البنيوي، والاختراق السياسي للمؤسسات._ 

 _لكن الجنوب لم يسقط، حينها نهضت طلائع المقاومة من أحياء العاصمة عدن ومن جبال الضالع ولحج، ومن ساحات أبين، شباب مدنيون، وعسكريون سابقون سُرحوا قسرًا بعد 1994، وضباط شجعان قرروا الانشقاق عن حالة اللاموقف، حملوا السلاح الشخصي وبدأوا في خوض معركة مصيرية على الأرض.. هذه النواة، رغم ضعفها في البداية، أسّست لميلاد جديد: "مقاومة جنوبية" تمتلك وعيًا سياسيًا بهويتها، وتستمد مشروعيتها من معاناة طويلة، وتؤمن بأن الجنوب لا يحميه إلا أبناؤه._ 

ميلاد الجيش الجنوبي

_بين أبريل ويوليو 2015، كانت عدن مسرحًا لحرب شوارع دامية، ومواجهة وجودية، خاضتها المقاومة الجنوبية ضد قوات مدربة وعتادها حديث، تدعمها مخازن الدولة التي سُلمت لهم على طبق من ذهب ودعم ايراني، ورغم إمكانات العدو الا محدودة، صمدت المقاومة الجنوبية بأمكامات بسيطة شخصية ثم بعد ذلك جاء دعمًا محدوداً من التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات العربية.. في 17 يوليو 2015، أعلنت عدن محررة بالكامل من قبضة الحوثيين، في مشهد تاريخي وصفه كثيرون بأنه "معجزة الميدان"، حيث كانت العاصمة عدن أول عاصمة تنتصر ضد المشروع الإيراني الكهنوتي حيث أن هذا النصر جاء بأرادة جنوبية لبناء قوة ودولة ذات سيادة._



_وبعد عدن، بدأ الجنوب يضع أولى لبنات مشروعه الأمني والعسكري الجديد كمسار منظم، فشكّلت ألوية الحزام الأمني والدعم والإسناد، بقيادة الشهيد القائد منير محمود ابو اليمامة ثم ظهرت النخب الشبوانية والحضرمية، وامتدّ التنظيم إلى أبين والضالع ويافع، وهي مناطق شكّلت نقاط ارتكاز تاريخية للجنوب عسكريًا وثقافيًا.. ثم تدريجيًا، تطوّرت هذه القوة إلى "جيش جنوبي "حديث" حيث أصبحت القوات الجنوبية هي أول لبنات مؤسسات الدولة الجنوبية، وحامي حماها ودرعها الحصين، جيش مدرّب، مؤهّل، ومشبع بعقيدة وطنية، بدأت تُسيطر على الجغرافيا وتفرض واقعًا جديدًا._

عقبات بناء الجيش الجنوبي

_بين عامي 2016 و2020، كانت القوات المسلحة الجنوبية تخوض حربًا على جبهتين: جبهة الميدان، حيث كانت تقاتل الحوثيين والتنظيمات الإرهابية، وجبهة السياسة، حيث تواجه وتحارب سياسات ممنهجة من قِبل أطراف في الحكومة الشرعية التي رأت فيها تهديدًا لمصالحها، ورغم حملات التشويه الإعلامي وقطع الرواتب والموارد، استطاعت القوات الجنوبية بناء كيان مؤسسي، يعتمد على هيكل قيادي واضح، وتمويل ذاتي جزئي، وشراكات مع دول في التحالف العربي، خاصة دولة الإمارات العربية، التي ساهمت بتدريب وتجهيز القوات الجنوبية ووحدات النخبة، ومكافحة الإرهاب.

وحين سلم القوات الإخوانية حضرموت للعناصر الإرهابية داعش والقاعدة وكانت هذه هي طعنة لحضرموت واهلها تعرضت لها من القوات الإخوانية التي كانت تحسب نفسها القوة الشرعية على الأرض لكن الحقيقة أنهم عناصر إرهابية لا خلاف عنها عن تنظيم القاعدة وداعش ولكن حين عاثت العناصر الإرهابية الفساد والقتل والدمار في حضرموت وجدت قوات النخبة الحضرمية الجنوبية نفسها أمام خيار واحد وهو إنقاذ اهلهم وشعبهم من هذا المأزق الإرهابي فشمرت ساعديها وحررت حضرموت من براثن الإرهاب تنظيم القاعدة وداعش وأصبحت النخبة الحضرمية الجنوبية هي الدرع الحصين لحضرموت أما في شبوة وأبين، خاضت القوات الجنوبية معارك شرسة ضد القاعدة، وأثبتت قدرتها على فرض الأمن في مناطق كانت توصف بـ"المستعصية"، وفي الضالع ويافع، أصبحت هذه القوات خط الدفاع الأول ضد التوغّل الحوثي، ونجحت في صدّ عشرات الهجمات المدعومة بطائرات مسيّرة وصواريخ إيرانية المصدر، ورغم كل تلك التحديات، تواصلت عملية البناء في الجيش الجنوبي، فالوحدات العسكرية والأمنية بدأت تكتسب خبرة ميدانية، وقادة الصف الثاني من الشباب الجنوبيين الذين تم تدريبهم على المهام القتالية والإدارية، وهذا ما أردف الوطن بضباط شباب قادرين على قيادة المرحلة في الحاضر والمستقبل وفي أي ظروف كانت.



لماذا لا يُهزم الجنوبيون؟

تملك القوات المسلحة الجنوبية ما لا تملكه كثير من القوى عقيدة وطنية واضحة، وهوية تحرّرية صلبة وهذه القوات لم تكن وليدة اليوم أو الأمس، بل هي امتداداً تاريخي لجيش الجنوب العربي قبل الوحدة، والذي كان يُعرف بـ"بجيش جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية"، ويمتلك بنية تنظيمية متقدمة، ومستوى تدريب مرتفع، وتحالفات دولية، لكن بعد حرب 1994، جرى تفكيك هذا الجيش بشكل انتقامي، وأُحيل الآلاف من ضباطه للتقاعد القسري أو الإقصاء، والاغتيالات والاخفاء القسري ما ولّد مرارة لم تندمل، لكنها تحوّلت لاحقًا إلى دافع للمقاومة عندما عاد هؤلاء الضباط في 2015، عادوا برؤية واضحة: "لن نُلدغ مرتين" حيث أن العقيدة القتالية للقوات الجنوبية تمزج بين الوطنية والهوية الجنوبية، وهي ترفض الانقياد لأي مشروع لا يعترف بحق الجنوب في تقرير مصيره، ولهذا، فإن الجندي الجنوبي لا يقاتل من أجل مرتب، بل من أجل قضية وهذه العقيدة هي ما جعلت هذه القوات تصمد في معارك كانت غير متكافئة، وتخرج منها منتصرة، واليوم، في 2025، وبعد كل المحطات، لم تنهر هذه المؤسسات، بل تطوّرت، وتحوّلت من مقاومة شعبية إلى قوة عسكرية محترفة لها سجل عملياتي واسع، وتلعب دورًا فاعلًا في أمن البحر الأحمر، ومكافحة الإرهاب.



معارك على حدود الجنوب

منذ 2019 وحتى منتصف 2025، ظلّت الجبهات الجنوبية، خصوصًا الضالع ويافع وكرش وطور الباحة وابين، مشتعلة دون انقطاع، هذه المناطق تحوّلت إلى سياج ناري منيع أمام أي محاولات لاختراق الجنوب عسكريًا من قِبل مليشيا الحوثي، التي رأت في الجنوب جبهة استنزاف خطرة على مشروعها التوسعي، فقد كانت جبهة الضالع وحدها، قُتل وجرح وقتل الآلاف من الحوثيين في محاولات اختراق متكررة، لكن القوات الجنوبية، بقيادة ألوية المشاة والصاعقة، ووحدات المقاومة، والوية العمالقة الجنوبية صمدت بمستوى يفوق التوقعات اعتمدت هذه القوات على تكتيكات قتالية مستوحاة من حروب العصابات والهجمات الليلية، والدفاع المتحرك، والهندسة الميدانية للشبكات الدفاعية، ما جعلها تحقّق توازن ردعي مع خصم يملك الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية.

ولم تكن الجبهات جغرافيا صمّاء؛ بل كانت أيضًا معامل صقل للقيادات الشابة، كثير من القادة الميدانيين الحاليين تخرّجوا من تلك الجبهات، سواء في محور الضالع أو يافع أو جبهة كرش، حيث تشكّلت منظومات قيادة شابة – لكنها منضبطة – أدارت المعارك باحتراف.. وفي معارك الحدّ ويافع التي اندلعت منتصف 2023، وا 2024، كانت نموذجًا على تماسك القوات، حيث تمّ صدّ هجوم حوثي واسع النطاق مدعوم بصواريخ دقيقة ومسيّرات إيرانية، لكن القوات الجنوبية لم تكتفِ بالدفاع، بل انتقلت إلى الهجوم المضاد، وحرّرت مناطق استراتيجية.

 القوات الجنوبية نواة الدولة الحديثة

بعكس كثير من القوى التي تحوّلت إلى أدوات قمع سياسي أو امتداد لمليشيات طائفية، فإن القوات المسلحة الجنوبية اليوم تمثل نواة دولة وطنية جنوبية ذات سيادة تحمي حقوق مواطنيها.. وتخضع هذه القوات إلى ترتيبات تنظيمية وهيكل قيادي واضح ضمن المجلس الانتقالي الجنوبي بقيادة الرئيس القائد الأعلى للقوات المسلحة والأمن الجنوبي، الذي أسّس خلال السنوات الماضية ما يشبه "الوزارات المصغّرة" مثل هيئة الدفاع والداخلية، إضافة إلى هيئة العمليات المشتركة.

يخضع كثير من الضباط لدورات تدريبية في قواعد عسكرية جنوبية (مثل قاعدة العند ومراكز تدريب أخرى في العاصمة عدن وحضرموت)، وبعضهم تلقّى دورات في الخارج ضمن برامج الدعم الإماراتي، ما أتاح للقوات الجنوبية الاحتكاك بأساليب الجيوش النظامية الحديثة، خصوصًا في مجالات مكافحة الإرهاب، وتقنيات الحرب الإلكترونية، والأمن البحري.

وقد تطورت مهام القوات المسلحة والأمن الجنوبي منذ 2019 بتنفيذ مهام عسكرية أخرى مثل: حماية خطوط الملاحة والسواحل في باب المندب وساحل حضرموت، ومنع تهريب السلاح والمخدرات

القوات الجنوبية لاعب استراتيجي في الإقليم

منذ أواخر 2022 وحتى منتصف 2025، تصاعدت التوترات في البحر الأحمر وباب المندب، وارتفعت وتيرة الهجمات الحوثية على السفن التجارية وناقلات النفط، وبدأت المنطقة تدخل مرحلة "حرب بحرية غير معلنة"، في هذا السياق، برز دور القوات المسلحة الجنوبية كفاعل إقليمي صاعد، خاصة بعد أن اعتمدت قوات التحالف الدولي (بقيادة أمريكا وبريطانيا) على الوحدات الجنوبية في تقديم الإحداثيات ومراقبة السواحل، وتنفيذ عمليات محددة ضد خلايا تهريب الطائرات المسيّرة والأسلحة القادمة من إيران.

في يناير 2024، نفّذت وحدات من النخبة الحضرمية بالتعاون مع قوات أمريكية عملية سرية ناجحة في سواحل المكلا، تم خلالها ضبط شحنة إلكترونيات عسكرية متطورة كانت في طريقها للحوثيين، ما أكّد أن القوات الجنوبية جزء من منظومة الأمن البحري الدولي.. وفي عدن والمكلا، شاركت القوات الجنوبية في حماية موانئ استراتيجية، ومنعت عمليات تخريبية كانت تخطط لها جماعات متطرفة بدعم خارجي.

وقد أثبتت القوات الجنوبية سياسياً بقيادة الرئيس القائد الأعلى للقوات المسلحة الجنوبية أنها ورقة قوة بيد الجنوب في أي مفاوضات سلام أو تسوية دولية، حيث اكد دبلوماسيون غربيون في تصريحات لهم في 2024 أن "أي تسوية سياسية في اليمن لن تكون واقعية دون إدماج القضية الجنوبية ومطالبها المشروعة"، ومع استمرار الغموض في مستقبل مفاوضات الحل النهائي، تبقى القوات الجنوبية لاعبًا محوريًا لا يمكن تجاوزه، سواء في الحرب أو في السلام.

صمود تحت نيران السياسة

لم تكن معركة القوات المسلحة الجنوبية ضد الحوثي أو الإرهاب فقط، بل كانت وما تزال معركة بقاء وشرف ضد محاولات الإقصاء والتهميش والتذويب السياسي حيث أن في كل الجبهات، كانت بندقية الجنوبي تقاوم، فيما كانت طعنات السياسة تنهش ظهره، لكنّه صمد، وتقدّم، ورفض أن يتحول إلى تابع أو ورقة تفاوض ورغم الحرب السياسية والعسكرية التي تخوضها القوات الجنوبية حافظت على تماسكها رغم غياب التمويل الحكومي، ورغم حملات التشويه، ورغم الضغوط الإقليمية والدولية لتذويبها في كيانات مفخخة بالولاءات حيث أنها خاضت معركتها بكرامة، معتمدة على الثقة الشعبية والانتماء الوطني الجنوبي الخالص، وهي ثقة لا تُشترى ولا تُمنَح، بل تُكتسب بالدم والسهر والتضحية، وقد حاولت بعض القوى والمكونات تصنيفها على أنها "تشكيلات مناطقية" أو "فصائل غير نظامية"، لكنها أثبتت في الواقع أنها القوة الفعلية الوحيد الذي تفرض الامن والاستقرار في المحافظات الجنوبية وتقاتل بإخلاص لحماية الأرض والشعب

واليوم، ومع اتساع رقعة سيطرتها، ونجاحها في ضبط الأمن ومواجهة الجماعات المتطرفة، تتحول القوات المسلحة الجنوبية إلى ركيزة الأمن في الجنوب، وجدار الصد الأول في وجه كل محاولات التهديدات الأمنية والعسكرية.

القوات الجنوبية ترسم ملامح الدولة الحديثة

اليوم وقد بزغت هذه القوات كقوة، نظامية، تحظى بقبول شعبي واسع، واعتراف إقليمي ودولي متصاعد حيث أنها هي من تمسك بزمام المبادرة الميدانية والأمنية والسياسية في الجنوب وهي من حررت عدن، وثبّتت الأمن في لحج وأبين، واستعادت شبوة، وتقدّمت في الضالع ويافع والساحل الغربي وهي من تخوض، في ذات الوقت، معركة بقاء في حضرموت والمهرة، وفي طاولة التفاوض الإقليمي والدولي، يُنظر إليها اليوم الجانب الدولي كقوة قادرة على ضبط الأمن البحري في باب المندب وخليج عدن ومكافحة الإرهاب بفعالية فشلت فيها قوى كبرى في حماية الملاحة العالمية في ظل تصاعد تهديدات الحوثيين في البحر الأحمر.