قلعة صيرة.. حكاية البحر والحجارة في قلب عدن

-شُيِّدت القلعة في القرن الحادي عشر الميلادي، ويُرجّح أنها بُنيت حوالي عام 1173م بواسطة الأمير التركي عثمان الزانغابيلي التكريتي. -أصبحت حصناً محورياً حين صدّت هجمات البرتغاليين خصوصاً عام 1517م، ودافع عنها العثمانيون أيضاً خلال نزاعات مملكة المماليك والشراكسة عام 1516. -واصل البريطانيون تطويرها عقب احتلال عدن في يناير 1839م، بل وأُضيفت إليها مدافع ومنشآت دفاعية جديدة لتتناسب مع تقنياتهم العسكرية.

قلعة صيرة.. حكاية البحر والحجارة في قلب عدن

خاص

محور بلس

على الجزيرة الصخرية الصغيرة التي تتقدم البحر عند مدخل خليج عدن، تنتصب قلعة صيرة كأنها صفحة مفتوحة من كتاب التاريخ.

هذه القلعة ليست مجرد أحجار مرصوفة، بل هي شاهد حي على تقلبات العصور، من الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي، مروراً بعهود السيطرة العثمانية والبرتغالية، وصولاً إلى زمن الاستعمار البريطاني في القرن التاسع عشر.

كل جدار من جدرانها، وكل برج من أبراجها، يحكي قصة عن مدينة لم تخضع بسهولة ولم تفقد هويتها.

الجذور الأولى: عصر الفتوحات الإسلامية

تعود أقدم الروايات عن بناء القلعة إلى القرن السابع الميلادي، بعد دخول عدن تحت راية الإسلام. اختير الموقع بعناية ليكون حصناً يحمي الميناء من أي هجوم بحري محتمل، إذ أن ميناء عدن كان منذ ذلك الحين واحداً من أهم الموانئ على طريق التجارة البحرية بين الشرق والغرب.

كانت القلعة بمثابة العين الساهرة التي ترصد البحر وتؤمّن الطريق للتجار والحجاج والمسافرين.

القرن السادس عشر: هجمات البرتغاليين

في القرن السادس عشر، حين حاول البرتغاليون السيطرة على الممرات البحرية، لعبت القلعة دوراً محورياً في صدّ الهجمات. يذكر المؤرخون أن مدافع صيرة كانت تطلق نيرانها على سفن الغزاة، لتبقى عدن عصية على السقوط بين أيدي الغرباء. كانت تلك المرحلة اختباراً حقيقياً لقوة القلعة وموقعها الاستراتيجي.

الحقبة العثمانية: تعزيز التحصينات

عندما دخل العثمانيون عدن في منتصف القرن السادس عشر، أدركوا الأهمية الكبرى لقلعة صيرة، فقاموا بترميمها وتعزيزها. أضافوا إليها تحصينات جديدة، وزودوها بالمدافع، لتكون حصناً متيناً يضمن لهم السيطرة على الميناء. لقد تحولت القلعة حينها إلى مركز عسكري متكامل، يربط بين البحر والمدينة ويمنحها حماية إضافية في مواجهة الأطماع الخارجية.

القرن التاسع عشر: الحقبة البريطانية

مع وصول البريطانيين إلى عدن عام 1839، دخلت القلعة مرحلة جديدة من تاريخها. أعاد البريطانيون استخدامها لأغراض دفاعية، وأدخلوا بعض التعديلات التي تناسب تقنياتهم العسكرية آنذاك.

ومع ذلك، لم تكن القلعة بالنسبة لهم مجرد موقع استراتيجي فحسب، بل أيضاً رمزاً للسيطرة على مدينة تُعد واحدة من أهم الموانئ في العالم.

القلعة والمدينة: علاقة تتجاوز الجغرافيا

لم تكن القلعة حامية للبحر وحده، بل كانت أيضاً رمزاً نفسياً لأهل عدن. في لحظات الخطر، كانت صيرة هي الأمل، وحين تهدأ العواصف، تتحول إلى معلم يزين أفق المدينة. حتى اليوم، حين يذكر العدنيون كلمة “صيرة”، فإنهم لا يقصدون فقط القلعة، بل يقصدون جزءاً من ذاكرتهم ووجدانهم.

صيرة في الحاضر: من حصن عسكري إلى معلم تراثي

لم تعد القلعة اليوم تزمجر بمدافعها ولا تسهر أعين الجنود في أبراجها، لكنها تحولت إلى وجهة سياحية وتراثية يقصدها الباحثون والزوار. يقف السائح أمامها مأخوذاً بروعة موقعها، فيما يستمع المؤرخ بشغف إلى تفاصيل الحكايات التي صمدت عبر الزمن.

أما أهل عدن، فهم يرون فيها مرآة لمدينتهم، تحكي عن الكبرياء والهوية والمقاومة.

صيرة… قصيدة الزمن الطويل

حين تغرب الشمس وتلقي أشعتها على جدران القلعة، تتحول صيرة إلى لوحة بصرية لا مثيل لها؛ يذوب فيها الماضي في الحاضر، وتعود صور الملاحين والغزاة والجنود الذين مروا من هنا لتطل من بين الأحجار.

إنها ليست مجرد أثر سياحي، بل قصيدة زمنية كتبتها عدن بالحجارة والبحر والنار.

خاتمة

ستظل قلعة صيرة رمزاً خالداً، لا تمحوه الرياح ولا الأمواج، لأنها لم تُبنَ بالحجارة فقط، بل بروح مدينة قاومت الغزاة واحتضنت البحر. إنها “ذاكرة البحر” و”حارس عدن العتيق”، الذي ما يزال واقفاً منذ أكثر من ألف عام، يروي للأجيال أن المدن العريقة لا تموت، بل تتجدد مع الزمن.