تقرير يكشف الوجه الخفي للأزمة الاقتصادية في عدن: تجويعٌ في الداخل وثراءٌ فاحش في الخارج

تقرير يكشف الوجه الخفي للأزمة الاقتصادية في عدن: تجويعٌ في الداخل وثراءٌ فاحش في الخارج
صورة تعبيرية

محور بلس/ خاص:

لم تعد عدن تلك المدينة التي تغنى بها الشعراء، مدينة النور والسلام والميناء العالمي الذي يربط الشرق بالغرب، هذه المدينة اليوم، تغرق في ظلام دامس ليس بسبب انقطاع الكهرباء المعتاد عليه يومياً، بل في ظلام اليأس والجوع والفقر الذي خيّم على كل بيت، حيث يقف المواطنون امام محلات التجار وفي الأسواق بجيوب فارغة وبطون خاوية، عاجزين عن شراء أبسط مستلزماتهم اليومية، كما وصف هذه الأزمة سكان محليون وسياسيون وصحفيون ومنظمات مدنية وحقوقية بأنها سياسة "تجويع ممنهج". حيث انه لأكثر من أربعة أشهر متتالية، تحولت حياة مئات الآلاف من موظفي الدولة، من معلمين وأطباء وجنود، إلى حياة بائسة تحت وطأة تعذيب الجوع والفقر منتظرين الراتب الذي كان يومًا حقًا أساسيًا ومصدرًا للكرامة، حلمًا بعيد المنال.

في هذا التقرير، سنكشف الآلية الخفية التي تدير هذه الكارثة: كيف تحولت معاناة الداخل اليمني إلى وقود مباشر لرفاهية طبقة سياسية فاسدة تعيش في فنادق الخمس نجوم بالخارج؟ وكيف تمارس سياسة "الإصلاح الاقتصادي"، والتي حقيقتها تحايل وأحكام بالإعدام البطيء على شعب بأكمله.

 توقف الرواتب وانهيار القوة الشرائية

مع دخول أزمة انقطاع المرتبات شهرها الرابع، تتكشف أبعاد كارثة إنسانية واقتصادية غير مسبوقة، حيث لم يعد الأمر مجرد ضائقة مالية، بل انهيار ممنهج للخدمات المعيشية الأساسية فالأرقام الصادرة عن المنظمات الدولية ترسم صورة قاتمة للواقع؛ فبحسب تقارير حديثة لصندوق النقد الدولي لعام 2025، من المتوقع أن يتصدر اليمن قائمة أفقر دول آسيا، حيث قد لا يتجاوز نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 400 دولار سنويًا، ويترتب الانهيار في الدخل هو نتيجة التدهور الحاد والمستمر في قيمة العملة على مدى السنوات الماضية، والذي أدى إلى تآكل القوة الشرائية بشكل شبه كامل.

وتتفاقم هذه المعاناة بفعل مفارقة اقتصادية حديثة؛ فعلى الرغم من التحسن النسبي والمؤقت الذي شهده سعر الريال اليمني مؤخراً، يبقى بعض المنتجات الاستهلاكية الأساسية قائماً بنفس السعر المرتفع، مما يحرم المواطن من أي أثر إيجابي ملموس، يوضح هذا الواقع كيف أن تداعيات الأزمة تظهر بوضوح في مؤشرات الأمن الغذائي؛ حيث حذرت الأمم المتحدة من أن أكثر من نصف سكان اليمن قد يواجهون انعداماً حاداً في الأمن الغذائي، وتشير تقارير برنامج الأغذية العالمي إلى أن أكثر من 60% من الأسر اليمنية أصبحت عاجزة عن تلبية الحد الأدنى من احتياجاتها الغذائية، وهو وضع مأساوي يجبر العديد من الأسر على اللجوء إلى استراتيجيات تكيف قاسية، مثل الاستغناء عن وجبات أساسية أو بيع ما تبقى من ممتلكات.

لم تتوقف الآثار عند حدود الجوع، بل امتدت لتشل قطاعات حيوية؛ فالنظام الصحي، الذي يحتاج فيه 17.8 مليون شخص للمساعدة، يعاني من نقص حاد في الكوادر والمستلزمات، أما قطاع التعليم، فقد حُرم العديد من الطلاب من إكمال دراستهم بسبب عجز أسرهم عن دفع الرسوم المدرسية، في حين أن المعلمين أنفسهم، الذين فقدت رواتبهم أكثر من 80% من قيمتها، ينفذون إضرابات متكررة للمطالبة بأبسط حقوقهم. وفي ظل هذه المعطيات، يعيش أكثر من 80% من السكان تحت خط الفقر، لم تعد الأزمة مجرد أرقام في تقارير، بل أصبحت واقعاً يومياً يهدد حياة وكرامة الملايين.

 كيف يتم استنزاف العملة الصعبة؟

في ظل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة، تتكشف حقيقة صادمة ترسم صورة قاتمة للتناقضات؛ فبينما يئن البنك المركزي في عدن تحت وطأة عجزه عن توفير بضع عشرات من الدولارات كرواتب للموظفين في الداخل، تتدفق أنهار من المليارات لتمويل حياة البذخ التي يعيشها جيش جرار من المسؤولين والدبلوماسيين والمستشارين الوهميين المقيمين في الخارج، ويعد ذلك عملية استنزاف متعمدة وموثقة لأثمن موارد البلاد.

لقد أفرزت سنوات الحرب طبقة هائلة من "المسؤولين بالاسم فقط"، غالبيتهم من المحافظات الشمالية، اتخذوا من عواصم العالم مقرات لهم، لا يؤدون أي مهام حقيقية تخدم الدولة، بل تحولوا إلى عبء مالي هائل. وتكشف مصادر موثوقة أن رواتب هؤلاء، التي تُصرف بالدولار والريال السعودي، تتراوح بين 5,000 دولار للموظف العادي وتصل إلى 20,000 دولار لكبار المسؤولين، شاملة البدلات والنثريات اليومية.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تم تقنين الفساد تحت مسمى إنساني خادع هو "كشوفات الإعاشة"، التي يُصرف بموجبها ما يقدر بنحو 12 مليون دولار شهريًا، أي ما يعادل 144 مليون دولار سنويًا، لمسؤولين وقيادات وعائلاتهم في الخارج دون أي رقابة أو مساءلة، قد يعادل راتب مسؤول واحد يقيم في فندق بالقاهرة رواتب كتيبة كاملة من الجنود الذين يواجهون الموت في جبهات القتال.



امتد هذا الفساد ليحول السفارات اليمنية في الخارج إلى ما يشبه "الإقطاعيات المالية"، حيث أشارت تقارير دولية، بما فيها تقرير وزارة الخارجية الأمريكية، إلى أن الفساد وسوء الإدارة يؤثران بشكل مباشر على الحكومة، كشفت مصادر مطلعة عن ممارسات مثل بيع جوازات السفر الدبلوماسية، توظيف الأقارب، والمبالغة في فواتير الإيجارات والنفقات، كل ذلك يُدفع من خزينة الدولة المنهكة بالعملة الصعبة لذا فإن كل دولار يُصرف على رفاهية مسؤول في الخارج هو مسمار جديد يُدق في نعش القوة الشرائية للمواطن في الداخل.

 نهب الثروات الوطنية

إذا كان فساد الخارج يستنزف العملة الصعبة، فإن فساد الداخل يقضي على ما تبقى من شرايين الدولة الإيرادية، محولاً مؤسساتها إلى إقطاعيات خاصة تخدم المتنفذين بدلاً من خدمة المواطنين. هذا الفساد ليس مخالفات فردية، بل شبكة منظمة ومعقدة تعمل على نهب الموارد بشكل ممنهج، مما يجعل أي محاولة للإصلاح أشبه بصب الماء في إناء مثقوب، حيث تكمن الكارثة الأكبر في أن الإيرادات السيادية لا تصل أصلاً إلى خزينة الدولة، وهي حقيقة صادمة اعترف بها محافظ البنك المركزي في عدن، أحمد غالب، مؤكداً أن حوالي 75% من إيرادات الدولة تُنهب قبل أن تجد طريقها إلى البنك، وتتحول إيرادات الموانئ والمطارات والجمارك والضرائب، التي تقدر بمليارات الريالات، إلى "صناديق سوداء" تمول جيوب قادة عسكريين وأمنيين ومسؤولين محليين، بدلاً من تمويل رواتب الموظفين والخدمات الأساسية، وهذ الفساد هو حقيقة موثقة بالأرقام والأسماء في تقارير الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، والتي كشفت عن مخالفات جسيمة في قطاعات حيوية، تتحدث عن عقود وهمية وبيع لأصول الدولة وتلاعب بالمناقصات.

وفي سياق آخر، كشفت الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد عن رفعها قائمة تضم أكثر من 200 جهة حكومية، امتنعت عن توريد مواردها المالية إلى خزينة الدولة في البنك المركزي اليمني، واستمرت في التعامل مع بنوك وجهات خارج الإطار الرسمي. وأكدت الهيئة أنها أحالت هذه الجهات إلى النائب العام، مطالبة باتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة والمساءلة.

فيما كشف بيان صادر عن "الاتحاد المدني لمكافحة الفساد" عن نتائج تقرير لجنة تقصي الحقائق البرلمانية الصادر في 24 أغسطس 2023، والذي رسم صورة مريعة لانهيار منظومة الحوكمة وغياب الشفافية. وفقاً للتقرير، شركات نفطية كبرى مثل "صافر" و"بترو مسيلة" امتنعت لسنوات عن تقديم أي بيانات فنية أو تقارير إنتاج أو موازنات تشغيلية، في تحدٍ سافر لأبسط قواعد الرقابة. كما كشفت عقود شراء الديزل بأسعار باهظة بلغت 1255 دولارًا للطن الواحد دون أي مناقصات، وبتواطؤ من جهات حكومية.

شركة "بترو مسيلة"، التي تأسست عام 2011، لا يوجد لها قرار وزاري رسمي، ولا نظام أساسي أو لوائح تنظيمية، وتمتنع عن تسليم بيانات الإنتاج الفني رغم الطلبات الرسمية، ما يطرح تساؤلات حول من يدير ثروة اليمن النفطية ولمصلحة من.

 وهكذا، يُغلق الستار على مشهد عبثي مسؤولون يزدادون ثراءً ووطن يزداد فقرًا. السؤال الذي يطرح نفسه ليس كيف وصلنا إلى هنا، بل إلى متى سيظل الصمت هو سيد الموقف بينما تُكتب شهادة وفاة أمة بأكملها بحبر الفساد؟