جيل يركض خلف الضوء ويترك الحبر والكتب خلفه!

جيل يركض خلف الضوء ويترك الحبر والكتب خلفه!

خاص

محور بلس

في مقاهي المدينة، في الحافلات، على أرصفة الجامعات، وفي البيوت المزدحمة بالأجهزة، تغيب الكتب وتحضر الشاشات، لم يعد مشهد الشاب الذي يحمل رواية أو كتابًا ثقافيًا مألوفًا كما كان قبل سنوات، بل أصبحت القراءة – لدى كثيرين – طقسًا ماضويًا لا يناسب إيقاع العصر السريع.

ومع صعود موجة المحتوى القصير ووسائل التواصل الاجتماعي، باتت عادة القراءة العميقة – خصوصًا لدى الشباب – تتراجع بشكل مخيف، حتى في أوساط المتعلمين. تساؤلات كثيرة تُطرح: لماذا لم يعد الجيل الجديد يقرأ؟ وهل نحن أمام أزمة ثقافية صامتة؟ وهل تقف التكنولوجيا وحدها خلف هذا التراجع؟ أم أن هناك عوامل أعمق تتعلق بالمدرسة، والأسرة، والإعلام، والصورة النمطية للقراءة في المجتمع؟

في هذا التقرير، نغوص في عمق الظاهرة، نستعرض آراء الشباب، نرصد أسباب التراجع، ونطلعكم على ما ادلى به المختصين الذين يحاولون إنعاش روح القراءة.

من الورق إلى الشاشة… ثم إلى اللا شيء؟

كانت المكتبات زوايا مقدسة لطلاب المعرفة، والمجلات الثقافية تُمرَّر من يد إلى يد بشغف، وتُناقش مضامينها في الساحات الجامعية، ولكن اليوم، تحوّل المشهد جذريًا.. لم تعد القراءة جزءًا طبيعيًا من حياة كثير من الشباب، بل تحوّلت إلى نشاط نخبوي – أو حتى ممل – أمام إغراءات العالم الرقمي.

دراسات عديدة تؤكد هذا التراجع ففي تقرير نشرته منظمة اليونسكو عام 2023، تبيّن أن متوسط عدد الكتب التي يقرأها الفرد العربي سنويًا لا يتجاوز ربع كتاب، مقارنة بـ11 كتابًا للفرد الأوروبي، والأسوأ أن الفئة العمرية بين 16 و25 عامًا، وهي الفئة الأكثر نشاطًا فكريًا وحيويًا، كانت الأقل قراءة بين مختلف الشرائح.

أما دراسة ميدانية صادرة عن "الدار العربية للعلوم" شملت عينة من 1200 شاب في خمس دول عربية، فأظهرت أن 71% من الشباب لم يقرؤوا كتابًا واحدًا بالكامل خلال ستة أشهر والسبب؟ "الانشغال"، "الملل"، "ضعف الوقت"، و"اكتفاء بالمحتوى السريع" كما عبّر معظمهم.

لكن التحول لم يكن من الورق إلى الشاشة فحسب، بل من القراءة المنظمة (حتى لو إلكترونيًا) إلى التشتت والانشغال بمحتوى مبعثر، غير عميق، يقدَّم في دقائق وربما ثوانٍ، تطبيقات مثل تيك توك ويوتيوب باتت تقدم وجبات معرفية أو ترفيهية سريعة، يصعب معها تخصيص ساعة واحدة لقراءة فصول كتاب.

وفي هذا السياق، يقول د. هاني الأغبري، الباحث في الثقافة الرقمية:"الشباب لا يرفضون المعرفة، بل يستهلكونها بشكل مختلف، الخطر ليس في الشاشة بحد ذاتها، بل في غياب التنظيم والنية في التعلُّم، مما أدى إلى قتل مهارة التركيز العميق، وهي الركيزة الأولى للقراءة".

 ما الذي تغيّر في الشباب… أم في المجتمع؟

تعددت الأسباب والنتيجة واحدة: الكتب مهجورة والسؤال هنا لا يجب أن يكون فقط "لماذا لا يقرأ الشباب؟"، بل "ماذا قدّمت لهم المدرسة؟ الأسرة؟ الإعلام؟ حتى يقرأوا؟".

الأسرة والبيئة المحيطة: في العديد من البيوت والمجتمعات وفي الدول العربية بشكل عام ، لا تزال الكتب غائبة عن المشهد اليومي، لا مكتبات منزلية، لا جلسات نقاش حول كتاب، ولا آباء يقرأون أمام أطفالهم، وحين ينشأ الطفل في بيئة لا تعزز هذا السلوك، من الطبيعي أن لا يطوره في شبابه.. في هذا تقول أ. سارة ياسين، أخصائية تربية أسرية:  "الطفل يرى وإن لم يرَ الكتاب في البيت كجزء من يوميات أسرته، فلن يشعر أن القراءة سلوك طبيعي، التربية تبدأ من القدوة".

- المدرسة والمقررات الجافة: يعاني التعليم في كثير من البلدان العربية من الجمود والمركزية، الكتب المدرسية غالبًا ما تكون ثقيلة المحتوى، منفصلة عن واقع الطالب، تُقدَّم في سياق إجباري يجعل من القراءة مجرد "واجب دراسي" وليس متعة فكرية.

تقول منار جميل وهي طالبة في جامعة عدن إن علاقتها بالقراءة كانت باهتة لسنوات، والسبب يعود إلى طبيعة المقررات الدراسية التي اعتادت على قراءتها، وتصفها بأنها "جامدة وخالية من الروح" لكنها تذكرت نقطة التحول حين قرأت رواية "خارج المنهج"، واضافت: "ما كانت الرواية جزء من دراستي، بس أول مرة أحس إن القراءة ممتعة وتلامس روحي فعلًا".

أما في الثقافة الشعبية، أحيانًا يُنظر إلى القارئ كشخص "انطوائي" أو "ممل"، بينما يُحتفى بالمؤثرين وصنّاع المحتوى كرموز للنجاح، هذه الصورة ترسّخ في الوعي الجمعي أن القراءة ليست طريقًا لـ"الشهرة" أو "النجاح"، بل هواية قديمة لا تُواكب الواقع.

كيف ينعكس العزوف عن القراءة على وعي الجيل؟

القراءة هي عملية تراكمية تبني الوعي، وتطوّر التفكير النقدي، وتُنتج شخصية مستقلة قادرة على الفهم والتمييز بين المعلومات الصحيحة والمضللة، وغياب هذا السلوك المعرفي بين الشباب لا يمر دون ثمن.. فبحسب دراسة لجامعة هارفارد عام 2022، فإن العقول التي تمارس "القراءة المركّزة بانتظام" تكون أكثر قدرة على التحليل واتخاذ القرار بنسبة تصل إلى 37% مقارنة بمن يستهلك محتوى مرئيًا فقط.

في هذا السياق تؤكد الناشطة والمهمة في الشؤون الاجتماعية حمدة سنيد: "إن القراءة غذاء الأفكار تزيد من وعي الإنسان وتوسع مدارك فكره وترتقي به نحو القمة ومما نراه من جهلٍ يسود الجيل الصاعد نتائج العزوف عن المطالعة كما يؤدي العزوف عن القراءة أيضاً إلى طمس هوية الفرد، وارتداءهُ لباس الجهل الذي يحجب عن فكره الوعي، وعلى فساد ألفاظه التي تبنّاها ممن يراهم قدوته المعرفة لا تُباع على الطرقات ولا  تُعرض على الشاشات ولا تتطاير مع نسمات الهواء، إنها ترقد على صفحات الكُتب ولا تستطيع الحصول عليها بسهولة وإنما يجب أن تتعب لتصل إلى مرحلة الوعي الذي تكتسبه من خلال المطالعة".

ولهذا هناك كثير من الشباب صاروا يعتمدون على الانطباعات السريعة، ويتجنبون الغوص في التفاصيل أو فهم خلفيات الأحداث.. في هذا أظهرت دراسة لـ"رويترز إنستيتيوت" عام 2023 أيضاً أن العزوف عن القراءة والاطلاع تؤدي إلى ضعف مهارات التعبير لأن القراءة تصقل اللغة وتُنمّي القدرة على التعبير، بينما الابتعاد عنها إلى يسبب ضعف في الكتابة، وفقر في المفردات، وانحسار التفكير النقدي.

 هل التكنولوجيا هي الجاني الحقيقي؟

قد نلقي اللوم على التكلنوجيا ونعتبرها سببًا مباشرًا في عزوف الشباب عن القراءة لكن هذا التبسيط يخفي جانبًا مهمًا من الحقيقة فالتكنولوجيا، في جوهرها، أداة محايدة يمكن أن تكون وسيلة تدمير أو تطوّر بحسب طريقة استخدامها.. لذا فإن الكتب الإلكترونية والكتب الصوتية ومنصات النشر الرقمي كلها شواهد على أن التكنولوجيا قد تكون جسرًا لا خصمًا حيث أن هناك بيانات أظهرتها منصة "أمازون كيندل" أن نسبة الشباب الذين يقرؤون كتبًا إلكترونية في الولايات المتحدة ارتفعت بنسبة 17% بين عامي 2020 و2023، خاصة بين الفئة العمرية من 18 إلى 25 سنة.

وفي العالم العربي، بدأت بعض المنصات تحاول جذب الجيل الجديد نحو تطبيقات، مثل: تطبيق أبجد (Abjjad) الذي يقدم آلاف الكتب الإلكترونية بالعربية بطريقة تفاعلية ومنصة Storytel التي تتيح كتبًا صوتية عربية بجودة عالية وقنوات بودكاست معرفية مثل "فنجان"، و"أبعاد"، و"الورّاق" التي تحوّل المعرفة إلى محتوى مسموع ممتع.

تقول د. أماني السقاف، الباحثة في الإعلام الجديد... اسم مستعار : "إذا أردنا أن نعيد الشباب إلى عالم القراءة، فعلينا أن نلتقي بهم حيث يقيمون اليوم: في الفضاء الرقمي، وعلى شاشات هواتفهم. المشكلة ليست في التكنولوجيا، بل في افتقادنا لطرق مبتكرة تجعل المحتوى المعرفي أكثر قربًا، وتقدم المعرفة بلغة تجذبهم وتعبر عن واقعهم، حينها فقط، قد تتحول القراءة إلى تجربة تفاعلية وممتعة تعيد لها مكانتها في حياة الأجيال الجديدة".

لذا فأن تراجع الإقبال على القراءة بين الشباب يمثل تحديًا ثقافيًا ومعرفيًا بالغ الخطورة، يتطلب وقفة جادة من جميع الأطراف المعنية، بدءًا من المؤسسات التربوية والثقافية، مرورًا بالأسرة والإعلام، وصولًا إلى صناع القرار فبناء مجتمع واعٍ ومحصّن معرفيًا يبدأ من غرس عادة القراءة، ليس كترفٍ نخبوي، بل كضرورة وطنية ومقوم أساسي من مقومات النهضة والتنمية المستدامة.