اتفاق ترامب وتشي: تهدئة تجارية أم صفقة تكتيكية في معركة النفوذ العالمي؟

اتفاق ترامب وتشي: تهدئة تجارية أم صفقة تكتيكية في معركة النفوذ العالمي؟

محور بلس - بقش

في لحظة تعكس المزيج بين التنافس الجيوسياسي والمصالح الاقتصادية، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن خفض الرسوم الجمركية المرتبطة بالفنتانيل على الواردات الصينية من 20% إلى 10% وفق اطلاع مرصد “بقش” على أحدث التصريحات، بالتوازي مع تمديد تجميد الرسوم الانتقامية لعام إضافي.

الاتفاق الذي خرج من رحم قمة ترامب وتشي في كوريا الجنوبية يبدو في ظاهره خطوة نحو تهدئة اقتصادية بعد سنوات من التصعيد، لكنه في جوهره يحمل إشارات أعمق عن شكل إدارة القوة بين واشنطن وبكين، وتجربة جديدة لاختبار الثقة بين الاقتصادين الأكبر في العالم.

هذه الخطوة جاءت بصياغة رسمية عبر أوامر تنفيذية، ما يعكس رغبة البيت الأبيض في تثبيت نتائج القمة كإطار عمل مؤقت يوازن بين الضغوط السياسية الداخلية في الولايات المتحدة وحاجة الاقتصاد الأمريكي لتنفّس في ملف التعريفات الجمركية.

الرسوم الجديدة تدخل حيّز التنفيذ في 10 نوفمبر، ما يمنح الشركات والمستوردين فترة انتقالية قصيرة للاستعداد لمرحلة جديدة من العلاقة التجارية الثنائية.

ورغم أن التراجع في التعرفة يمثل مكسباً لبكين، إلا أن التنازل الأمريكي لم يأتِ من فراغ. خلال الأشهر الماضية، تصاعد الضغط من رجال الأعمال الزراعيين والصناعات التي تعتمد على المواد الأولية القادمة من الصين، ليجد البيت الأبيض نفسه أمام خيار استراتيجي: إما مواصلة لعبة الضغط والمخاطرة بضرر اقتصادي داخلي، أو قبول هدنة تكتيكية تمنح السوق الأمريكي فرصة لالتقاط الأنفاس.

وفي خلفية هذا المشهد، يلوح السؤال الأبرز: هل هذه بداية انفراجة دائمة؟ أم خطوة محسوبة ضمن معركة طويلة ستشهد جولات جديدة من التصعيد والصفقات الجزئية؟

الفنتانيل: ملف قومي يتحول إلى ورقة تفاوض تجارية

خلافاً لما قد يبدو ملفاً صحياً أو أمنياً خالصاً، تحوّل الفنتانيل إلى عنصر تضاغطي ضمن المفاوضات التجارية بين واشنطن وبكين وفق قراءات بقش. ترامب ربط بشكل مباشر الرسوم الجمركية بجهود الصين للحد من تهريب المواد الأولية المستخدمة في تصنيع هذا المخدر القاتل، في خطوة تعكس دمج الأمن القومي ضمن أدوات التجارة الدولية الأمريكية.

الصين، من جهتها، قدّمت التزاماً واضحاً بوقف شحن مواد كيميائية محددة إلى أمريكا الشمالية، وتوسيع نطاق الرقابة لتشمل صادرات أخرى حول العالم. بالنسبة لبكين، يمثل هذا الملف فرصة لإظهار الجدية في التعاون الأمني مع الولايات المتحدة، خصوصاً في ظل رغبتها في كسر صورة الدولة اللامبالية تجاه أزمة الأدوية المخدرة داخل أمريكا.

ترامب شدد في أوامره التنفيذية على أن وزارتي الخارجية والأمن الداخلي الأمريكيتين ستراقبان التنفيذ بشكل دقيق، بل وهدد بإعادة فرض الرسوم إذا لم تلتزم الصين بتعهداتها. بذلك، لم يعد ملف الفنتانيل مجرد قضية داخلية أمريكية، بل بات أداة صريحة في هندسة النفوذ التجاري بين القوتين.

هذه المعالجة تعكس أيضاً استراتيجية ترامب الأوسع: إزالة الحدود بين الملفات الأمنية والاقتصادية، وتشكيل سلّم مقايضات جديد يخدم هدف إبقاء الضغط قائماً حتى عندما تُعلن هدنة.

الزراعة والمصالح الريفية.. قلب التحالف السياسي لترامب يكسب جولة

ضمن بنود الاتفاق، التزمت الصين بشراء صادرات زراعية أمريكية تشمل فول الصويا والذرة البيضاء والأخشاب، وهي سلع تمثل قلب الاقتصاد الريفي الأمريكي والقواعد الانتخابية التي يعتمد عليها ترامب.

العودة الصينية إلى السوق الزراعي الأمريكي تحمل أهمية تتجاوز الأرقام التجارية؛ فهي رسالة سياسية للجمهور الريفي بأن الرئيس الأمريكي لا يزال قادراً على فتح الأسواق الدولية أمام منتجاتهم رغم التوترات الجيوسياسية.

تعليق الرسوم على المنتجات الزراعية الأمريكية من جانب الصين يمنح القطاع دفعة كانت السوق في أمسّ الحاجة إليها بعد سنوات من الاضطراب. وفي الوقت ذاته، تخفف هذه الخطوة الضغط على الشركات الأمريكية التي عانت من نهج الرسوم المتقلب خلال سنوات ترامب الأولى، حيث بات التخطيط طويل الأمد شبه مستحيل.

لكن الاتفاق لا يخلو من مخاطر سياسية بالنسبة لترامب. فالتراجع عن نهجه الصدامي ضد الصين قد يثير غضب المتشددين داخل الحزب الجمهوري الذين يرون في أي تنازل إشارة ضعف. ومع ذلك، يبدو أن البيت الأبيض يراهن على أن المكاسب الاقتصادية المباشرة ستتفوق على الضجيج السياسي المؤقت.

في ميزان الاستراتيجيات الانتخابية، يظل تأمين مصالح المزارعين خطوة مركزية، خصوصاً مع اقتراب موعد الاستحقاق الرئاسي المقبل، ما يجعل هذا الاتفاق ليس فقط تجارة بين دولتين، بل صفقة انتخابية داخلية مبكرة.

هدنة مؤقتة أم تأسيس لمعادلة تجارية جديدة؟

رغم أن الاتفاق يشكل خطوة لخفض التوترات، فإنه لا يقدم تسوية دائمة. البنود مؤقتة لعام واحد فقط حسب اطلاع بقش على بنود الاتفاق الأسبوع الماضي، مع بقاء مساحة كبيرة للتأويل والمراجعة، ما يلمح إلى أن الطرفين اختارا شراء الوقت بدلاً من إنهاء الأزمة. العودة المحتملة للتوترات خلال الأشهر المقبلة تبقى خياراً واقعياً، خصوصاً إذا تعثرت آليات التنفيذ أو ظهرت قضايا جديدة بين القوتين.

ترامب أعلن أنه يعتزم زيارة الصين في النصف الأول من العام المقبل حسب تتبُّع بقش، على أن يستضيف شي لاحقاً في الولايات المتحدة، وهي رسائل دبلوماسية مدروسة تهدف إلى تقديم صورة قيادة أمريكية واثقة تعيد تشكيل قواعد اللعبة بدلاً من الانسحاب منها.

لكن في الوقت نفسه، يستمر القضاء الأمريكي في دراسة مدى دستورية استخدام صلاحيات الطوارئ لفرض رسوم على أساس الدولة، ما قد يفتح جبهة قانونية جديدة في الداخل.

الاتفاق منح بكين مستوى رسوم أقرب لما تحظى به دول جنوب شرق آسيا المصدرة، ما يقلل فجوة كان يُنظر إليها كتمييز تجاري. هذا التوازن النسبي قد يُرضي الرؤية الصينية قصيرة المدى، لكنه لا ينهي جذور الخلاف التجاري حول التكنولوجيا وسلاسل التوريد ومكانة العملات والذكاء الاصطناعي.

في النهاية، يبدو المشهد كالتالي: هدنة تجارية مدفوعة بالحسابات الداخلية، ورسالة للعالم بأن واشنطن وبكين لا تزالان قادرتين على التفاهم عندما تفرض المصالح ذلك. لكنها هدنة هشة، مشروطة، ومفتوحة على احتمالات العودة للمواجهة في أي وقت.