الصين تعيد رسم اقتصادها: القطاع الخاص يصبح شريكاً أساسياً في النمو
محور بلس - بقش
في تحول اقتصادي يعكس رغبة بكين في إعادة تنشيط عصب النمو المحلي، أعلنت الصين عن حزمة من 13 إجراء جديداً تهدف إلى تعزيز دور الاستثمار الخاص في قطاعات كانت لعقود تحت سيطرة الدولة، مثل الطاقة النووية والبنية التحتية والاتصالات.
الخطوة، التي أعلنها مجلس الدولة الصيني، تأتي في وقت تواجه فيه البلاد تراجعاً في الاستثمارات الأجنبية وتباطؤاً في الطلب المحلي، ما جعل تنشيط القطاع الخاص أولوية اقتصادية قصوى.
ولطالما شكّل القطاع العام في الصين مركز الثقل في الصناعات الكبرى، لكن الإصلاحات الجديدة تشير إلى تحول نوعي في الفكر الاقتصادي الصيني، فالحكومة لم تكتفِ بالإعلان عن نوايا عامة، بل قدمت خطة تنفيذية.
هذه الخطة تشمل وفق اطلاع مرصد “بقش”، رفعَ حدود ملكية الشركات الخاصة في المشاريع المؤهلة إلى أكثر من 10%، وإزالة العوائق الإدارية والتنظيمية التي كانت تُقصي المستثمرين الصينيين من القطاع الخاص، وتشجيع رؤوس الأموال المحلية على دخول مجالات جديدة مثل الطاقة النووية، والاتصالات عبر الأقمار الصناعية، و”اقتصاد الارتفاعات المنخفضة” المرتبط بالطيران التجاري الخفيف والأنشطة الجوية دون ألف متر.
وبهذه الخطوات، يبدو أن بكين تعيد رسم خريطة الاقتصاد الوطني، بحيث تصبح الملكية المشتركة بين الدولة والقطاع الخاص أساساً جديداً للنمو بدل الاعتماد المفرط على المؤسسات الحكومية.
أزمة ثقة واستثمارها راكدة
الحزمة جاءت في أعقاب تراجع حاد في الاستثمارات الأجنبية المباشرة، حيث انخفضت التدفقات الجديدة بأكثر من 10% خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي حسب مراجعة بقش، كما يعاني القطاع الخاص من أطول فترة انكماش اقتصادي منذ عقود، وتراجع في الأرباح وتنامٍ في القيود المفروضة على الصادرات الصينية في الأسواق الغربية.
ويُنظر إلى ما يحدث اليوم باعتباره محاولة صينية لاستعادة الثقة المفقودة لدى المستثمرين المحليين بعد سنوات من التشدد التنظيمي والرقابة الحكومية، فالحكومة الصينية أدركت أن القطاع الخاص ليس فقط محركاً للنمو، بل صمام أمان للاقتصاد الكلي في مواجهة التباطؤ والعقوبات التجارية الغربية.
وحسب صحيفة Economic Information Daily، فقد بدأت أولى الخطوات العملية في هذا الاتجاه منذ أغسطس 2024، عندما سمحت الحكومة للشركات الخاصة برفع حصصها في خمسة مشاريع للطاقة النووية من 2% إلى 10%.
وتُعد هذه النسبة رمزية في ظاهرها، لكنها تفتح الباب أمام مشاركة القطاع الخاص في مجال كان مغلقاً تماماً لعقود بسبب حساسيته الاستراتيجية.
وتقول وكالة بلومبيرغ إن دخول المستثمرين المحليين إلى هذا القطاع سيخلق بيئة تنافسية أكثر كفاءة، ويساهم في تسريع الابتكار التكنولوجي وخفض تكاليف الإنتاج، خصوصاً في مجالات الطاقة النظيفة والمفاعلات الصغيرة الآمنة.
إنعاش القطاع الصغير والمتوسط: محرك النمو المحلي
لم تغفل الحكومة الصينية عن الشركات الصغيرة والمتوسطة، التي تمثل العمود الفقري للاقتصاد المحلي، فبموجب الإجراءات الجديدة، يُخصص 40% من ميزانية المشاريع المؤهلة (أكثر من 4 ملايين يوان) لصالح هذه الشركات، كما ستحصل على دفعات مقدمة تتجاوز 30% من قيمة العقود الحكومية، في خطوة تهدف إلى تحسين السيولة وتعزيز قدرة هذه الشركات على الاستمرار والتوسع.
كما أعلنت بكين عن تخصيص 500 مليار يوان (نحو 70 مليار دولار) كأداة تمويلية جديدة لمساعدة القطاع الخاص على زيادة استثماراته في المجالات الحيوية، وهذه الخطوة ستؤدي إلى إطلاق دورة استثمارية متسلسلة تنعش أسواق العمل وتزيد الطلب المحلي على السلع والخدمات.
وأكد البيان الحكومي أن فرض أي شروط إضافية أو تمييزية ضد الشركات الخاصة عند التقدم بالعطاءات أصبح “ممنوعاً منعاً باتاً”، مشدداً على ضرورة إزالة متطلبات الأداء السابقة أو المؤهلات الخاصة التي كانت تعرقل المنافسة.
وذلك يعني أن بكين تتجه نحو تسوية حقيقية في الملعب الاقتصادي بين القطاعين العام والخاص، ما من شأنه أن يخلق مناخاً استثمارياً أكثر عدلاً وشفافية.
كما وعدت الحكومة بتحسين سياسات دخول السوق أمام الاستثمارات الخاصة في الاتصالات الفضائية والتكنولوجيا المتقدمة، ومنحها فرصاً لقيادة برامج البحث العلمي الوطنية الكبرى، الأمر الذي قد يسرّع تحول الصين إلى مركز عالمي للابتكار.
من إنعاش الثقة إلى تحفيز النمو
يُقدّر أن يسهم القطاع الخاص حالياً بأكثر من 60% من الناتج المحلي الإجمالي، و50% من الإيرادات الضريبية، و80% من الوظائف في المدن الصينية.
لكن ضعف الطلب الداخلي والتحديات التجارية الخارجية جعلا هذا القطاع يتراجع، ما انعكس على مجمل الاقتصاد الوطني.
ومن المتوقع أن تؤدي الحزمة الجديدة إلى إنعاش بيئة الأعمال عبر ضخ رؤوس أموال جديدة في القطاعات الإنتاجية، ورفع معدلات التوظيف وتحسين دخول الطبقة المتوسطة، وتحفيز الابتكار الصناعي والتكنولوجي من خلال شراكات بين الدولة والشركات الخاصة.
كما ستؤدي إلى تعزيز الثقة المحلية والدولية في الاقتصاد الصيني بعد سنوات من الانكماش الحذر، ودعم العملة الصينية اليوان بفضل زيادة الاستثمارات والنشاط الإنتاجي.
في المحصلة، تسعى الصين عبر هذه الإجراءات إلى تحريك عجلة الاقتصاد من الداخل، بعد أن واجهت تحديات خارجية عنيفة وتباطؤاً في الصادرات والاستثمارات الأجنبية.
ويمثّل فتح القطاعات الكبرى أمام الاستثمار الخاص تغييراً في الفلسفة التنموية ذاتها، من “الدولة القائدة” إلى “الدولة الشريكة”، ومن اقتصاد موجه إلى اقتصاد أكثر مرونة وتنافسية.
ومع أن تنفيذ هذه الإصلاحات سيتطلب وقتاً وثقة متبادلة بين الحكومة والمستثمرين، إلا أن الصين تعبّر عن أن القطاع الخاص عاد إلى قلب النمو الصيني، وأن بكين جادة في إعادة بناء اقتصادها على أسس أكثر انفتاحاً وتوازناً واستدامة.




