قصر الكثيري في سيئون… حين يتحول الطين إلى تاريخ وذاكرة وطن

قصر الكثيري في سيئون… حين يتحول الطين إلى تاريخ وذاكرة وطن

خاص

محور بلس

في قلب مدينة سيئون، وعلى ضفاف وادي حضرموت، يقف قصر الكثيري شامخاً كأنه شاهدٌ حيّ على قرونٍ من التاريخ والسياسة والحياة الاجتماعية، لا مجرد مبنى أثري، بل ذاكرة متكاملة تختزل ملامح دولة، وسيرة سلاطين، وروح مدينة صاغتها الشمس والطين والصبر.

معلم يتجاوز العمارة

يعود تاريخ تشييد قصر الكثيري إلى بدايات القرن العشرين، حين أمر السلطان غالب بن عوض الكثيري ببنائه ليكون مقراً للحكم وسكناً للسلطان، فجاء القصر بطراز حضرمي فريد يعتمد على الطين المشوي، في مشهد معماري يثير الدهشة بقدر ما يعكس عبقرية الإنسان الحضرمي في تطويع البيئة القاسية وتحويلها إلى جمال دائم.

بارتفاعه اللافت وطوابقه المتناسقة، بدا القصر كعلامة سيادية في المدينة، ومركزاً لاتخاذ القرار السياسي، ومقصداً للوفود والوجهاء، حتى أصبح اسمه مرتبطاً بسيئون نفسها، وكأن المدينة تنطق به.

هندسة الطين… هوية حضرمية

لا تكمن فرادة قصر الكثيري في حجمه أو موقعه فحسب، بل في هندسته الدقيقة؛ نوافذ عالية تسمح بمرور الهواء، جدران سميكة تعزل حرارة الصيف، وزخارف بسيطة تعكس روح التواضع والجمال في آنٍ واحد.

إنه نموذج مكتمل للعمارة الطينية الحضرمية التي سبقت زمنها، وأثبتت قدرتها على الصمود أمام الزمن والتغيرات المناخية، دون أن تفقد أناقتها أو حضورها.

من قصر حكم إلى متحف ذاكرة

مع تعاقب المراحل السياسية، تحوّل قصر الكثيري من مقر للسلطنة إلى متحف تاريخي يحتضن اليوم مقتنيات نادرة، ووثائق، وصوراً تحكي قصة حضرموت، وسلاطينها، وأنماط الحياة الاجتماعية والسياسية التي سادت المنطقة لعقود طويلة.

ويمثل القصر اليوم محطة رئيسية للزوار والباحثين والمهتمين بالتراث، ومصدر فخر لأبناء حضرموت الذين يرون فيه عنواناً لهويتهم وامتدادهم التاريخي.

تراث يحتاج إلى حماية

ورغم رمزيته الكبيرة، يظل قصر الكثيري بحاجة دائمة إلى الرعاية والصيانة، في ظل التحديات التي تواجه المواقع الأثرية في البلد. فالحفاظ على هذا المعلم ليس ترفاً ثقافياً، بل مسؤولية وطنية، لأن ضياعه يعني فقدان فصلٍ كامل من ذاكرة حضرموت والجنوب عموماً.

قصر يحكي حكاية وطن

لم يعد قصر الكثيري مجرد طينٍ مصفوف، بل حكاية شعب، وتجربة حكم، ودرس في القدرة على البناء والاستمرار. وبين جدرانه الصامتة، لا يزال التاريخ يتكلم… لمن يعرف كيف يصغي.