اغتيال المفاهيم: سطحية المعنى وعبثية الوعي
محور بلس
بقلم: فـادي الفقيه
في زمننا الحاضر، أصبحت المجتمعات تعيش أزمةوعي حقيقية، افقدتها القدرة على إدراك جوهر ومعنى المفاهيم التي تقوم عليها الحياة، حيث يأتي مفهوم الحرية، التي في أصل جوهرها، تعني قدرة الإنسان على التفكير الواعي، والاختيار المسؤول، واتخاذ القرار المستقل، أصبحت مُنحصرة في أذهان الاجيال الصاعدة في صورة سطحية هزيلة، تختزل في التعري، التفاهة، الابتذال وحتى الإلحاد، وكأنها - موضة العصر- حتى غدت الحرية لديهم تقليداً أعمى لنمط (ترند) وسائل التواصل الاجتماعي، ولثقافات دخيله، بلا فهم أو وعي، وهو أخطر ما يمكن أن يغزوا المجتمعات، ويقودها الى الانحدار..!
أما عن مفهوم الدين، الذي هو غاية الوجود وبوابة النجاة نحو حياة سماوية أبدية أرقى، فقد أصبح فهمه وتفسيره بين الغلو والتفريط، وتحول لدى البعض إلى ساحة فوضى، يفسر فيها كلً على هواه، وتصدر الفتاوى بغير علم، واصبح معيار الايمان بنظر المجتمع يقاس بالشكل الخارجي للإنسان، من لحية وحجاب، وأمور سطحية أخرى، متناسين أن الايمان يكمن في عمق جوهر الإنسان، وأن حسن الخلق والتعامل، أهم بكثير من القشور الخارجية، التي أصبح يحكم على الاشخاص من خلالها، فالدين علاقة خاصة بين العبد وخالقه، لا وصاية لأحد عليها، ولا مجال للتباهي، أو إدعاء الأفضلية، فلا أحد يعلم مكانته عند الله، أو مكانة غيره، من سيفوز ومن سيخسر، يقول الله عز وجل ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
أما عن مفهوم الشرف والفضيلة، التي هي قيمة الإنسان في عين نفسه وسموّه عن الدنايا، نجد بأنها مفاهيم أنحدرت في كثير من العقول إلى إطار خارجي مصطنع، يُعرض كبرواز فارغ يخفي وراءه جوهراً هشاً، حيث أصبح لا بأس أن يتم التحايل على الفضيلة في سبيل تحقيق الغاية، لكن الأهم أن لا تهتز الصورة الشريفة أمام الآخرين..!!
وحتى إلى مفهوم المال، الذي وجد ليكون وسيلة لتلبية الاحتياجات، وضمان حياة كريمة، تحوّل إلى مقياس لقيمة الإنسان، ومصدر لتحقيق الاحترام والمكانة المرموقة في المجتمع، وكأن كلما كان حجم ثروتك أكبر، كلما كانت قيمتك أعلى وأرقى في أعين الآخرين،، وهذا ما يحدث على أرض الواقع، أصبح "الكارت البنكي" هو المعيار الذي يتحدد على ضوئه شكل وطريقة واسلوب تعامل الآخرين معك، حتى إلى نبرة صوتهم وكلماتهم عند مخاطبتك..!!
إنها لمسألة في قمة العبث حين تُفرغ المفاهيم من معانيها العميقة، وتُستبدل بمعاني هزيلة، مكسوّه بقشور براقة لا تحمل في داخلها سوى الفراغ.
وحين تُفرغ المفاهيم من جوهرها وتُلبس أثواباً زائفة، حينها يفقد الإنسان بوصلته، ويضيع في دوامة من القشور التي تخلو من أي قيمة أو معنى،فأخطر ما يمكن أن يصيب المجتمعات اليوم، ليس الفقر أو الجهل وحدهما، بل تشويه المعاني والمفاهيم التي تقوم عليها القيم المجتمعية،، فحين نُبدّل العمق بالسطح، والجوهر بالمظهر، نصنع بأيدينا عالماً فارغاً، وواقعاً زائفاً، يلمع من الخارج ويتآكل من الداخل،، وحينها، لا يكون الانحدار احتمالاً، بل مصيراً محتوماً..!!