يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
حين نتأمل في ملامح الدول المتقدمة والشعوب المزدهرة، غالباً ما يتبادر الى أذهاننا أنها حققت ما وصلت إليه بقوة السلاح، بالهيمنة السياسية، بالثروات الاقتصادية أو بنفوذها الدولية، غير أن هذا التصور السطحي يغفل عن أعظم سلاح امتلكته هذه الأمم في مسيرتها نحو المجد والنهضة وهو "سلاح العلم".
فليس السلاح النووي، ولا الرصاصة الذكية، هو من يصنع الحضارات، بل هو الفكر المستنير، والعقل الواعي، والمؤسسات التعليمية الراسخة، فلقد كان التعليم منذ فجر التاريخ، هو القوة الحقيقية التي غيرت مصائر الأمم، فنهضت شعوب من ركام الجهل إلى قمم التقدم، وانتقلت من الظلام إلى النور، لا بشيء سوى بالمعرفة وسلاح العلم، يقول مفكر الحرية نيلسون مانديلا: "التعليم هو أقوى سلاح يمكنك استخدامه لتغيير العالم."
في المقابل، نرى واقعًا مؤلمًا يعيشه وطننا العربي، الذي كان يوماً منارة العلم وأساس النهضة، فإذا به اليوم في مؤخرة ركب الحضارة، لا لضعف الموارد، ولا لندرة في القدرات، بل لتهميشه أخطر ما يمكن إهماله وهو استثمار عقل الانسان.
فلا يمكن لشعب أن يحقق نهضة اقتصادية أو استقراراً سياسياً، أو وعياً اجتماعياً في بيئة تعليمية متهالكة، تعاني من تحديات متجذرة لم تعالج، فتحولت إلى تهديدات قادت المجتمعات نحو الهلاك والدمار، فكيف ننتظر أجيالاً تدافع عن حقوقها وتفي بواجباتها، والتعليم الذي تتلقاه مفرغ من مضمونه، لا يخرج مفكرًا أو مبدعًا، بل مجرد آلة للحفظ والتلقين.
وكيف نطالب اليوم بمجتمع حر واجيال واعية تجاه حقوقها وواجباتها في ظل تعليم زائف؟،كيف نطالب بسلطة سياسية رشيدة، تحقق مطالب ومصالح الشعب؟ إن كان الشعب بحد ذاته يفتقد للوعي والادراك لحقوقه وواجباته، وأي مسؤولية يمكن أن نلقيها على شعب لم يُمنح الأدوات الأساسية للفهم والإدراك، ولا التمييز بين الحقوق والواجبات.
كيف نطالب بتعليم رفيع؟ وأغلب من يمارس مهنة التعليم لا يمتلك الكفاءة ولا الآهلية، بل يعتمد على أساليب تقليدية، تقتل في الطالب فضول المعرفة وروح الابتكار.
إحفظ كل الكتاب الذي مضى عليه عشرات السنين ، وقم بنسخه على اوراق الامتحان، لتحصل على الدرجة! وكأننا نتعامل مع كائن آلي لا بإنسان له القدرة على التحليل والتفكير والابتكار، حتى أن الذكاء الاصطناعي اليوم بات يعامل باحترام، فكيف بالانسان ؟!!
الأزمة في جوهرها لا تقتصر على التعليم، بل تتسع لتشمل بنية الدولة بأكملها، حيث يُهمش العمل بمبدأ "الشخص المناسب في المكان المناسب"، فتترتب عليه سلسلة من الانهيارات.. مؤسسات سياسية عمياء، منظومات تعليمية مشلولة، إدارات اقتصادية فاسدة، وشعوب مسلوبة الارادة، تُقاد لا تُفكر، تسمع لا ترى، تُردد لا تُدرك، تُقلد لا تبتكر.
إن طريق النجاة واضح، لكنه شاق، يبدأ من بناء وتقدير واستثمار عقل الإنسان، وتأسيس وعيه من داخل الأسرة وصولاً الى الدولة، ولا سبيل لذلك، إلا من خلال تعزيز وارتقاء الجانب العلمي وإعلاء شأنه لإنقاذ ما تبقى من الأوطان الضائعة.. إن تبقى!!
إن لم ندرك أن الجهل ليس مجرد غياب للمعرفة، بل هو أخطر أشكال العبودية المقنّعة، فلن نعرف طعم الحرية أبداً، فالجهل يُحوّل الإنسان إلى كائن تابع، يسير بلا وعي، وينطق بلا إدراك، يرضى بالقيود طواعية ظناً أنها الخلاص، وحده العلم يملك مفاتيح التحرر، فهو الذي يكسر الأغلال، ويمزق ستار الضلال، ويكشف تلك الحقائق التي تتعمد الأنظمة الفاسدة طمسها لإبقاء الشعوب في دائرة الغفلة والانقياد.. وبالعلم وحده يبصر الإنسان، يفكر بعمق، يختار بإرادة، ويغيّر بشجاعة، يقول ابن خلدون: "إذا زاد الجهل في أمة، تصدّع بنيانها، وانهار سلطانها، وساد فيها الفساد".
فالحضارات لا تُبنى على أمجاد الماضي، ولا تنهض بالحروب والصراعات ولا صخب الشعارات، بل ترتقي حين تتكئ على العلم كمرتكز أول، وسند ثابت.. فالعلم ليس خياراً، بل هو الأساس الذي تُقام عليه أعمدة الأوطان، فإن كان هذا الأساس هشًّا، فلا سقف يصمد، ولا دولة تقف، بل كل ما يُبنى على الوهم مصيره الانهيار والدمار.. فالأمم تُقاس لا بارتفاع أبراجها، بل بارتفاع وعيها، والدول لا تنهار من الخارج، بل عندما تخدر عقول شعوبها من الداخل وحين يصحو العقل… تصحو الأوطان..!
فهل يصحو هذا الجيل من كبوته، ويصحح من عثراته، ويمضي في ركاب التقدم والعلم والحضارة؟ أم نظل كما نحن غارقون في دهاليز الجهل والتخلف والتعلق بأمجاد الماضي، ليصدق قول قال المتنبي المأثور "يا أمة ضحكت من جهلها الأمم".