هنا وُلدت… وهنا سأموت واقفًا

#وطني

يا وطني… كيف صرتَ هذا الحطام الذي يمشي؟ كيف صار وجهك غريبًا علينا، كما لو أنك أنت، ولستَ أنت؟ من أطفأ قنديلك؟ من دسّ الغدر في خبزك؟ من علّق خريطتك على جدران الوهم، ثم مضى يبيعها رقعةً رقعة لتُجار الحروب؟ كنا نظن أن الطعنة تأتي من العدو، لكننا لم نكن نعلم أن أكثر الجراح عمقًا، تأتي من يد الأخ؛ من أولئك الذين رفعوا اسمك في الشعارات، بينما كانوا ينهشونك كالذئاب الجائعة. كنا نحلم بوطن يشبه ضوء الفجر، فأيقظونا على وطن يشبه فوهة النار. كنا ننتظر الخلاص، فجاءنا حاملو الرايات البيضاء، وهم يُخفون خلف ظهورهم خناجر الغدر. متى صار خبزك نادرًا؟ متى صار الماء ملحًا، والكهرباء حلمًا، والصوت صدى لا يسمعه أحد؟ متى تحوّل الأمل إلى سلعة في سوق المساعدات؟ متى أصبح القتلة زعماء، والجهلة ناطقين باسمك؟ متى صارت كل الجهات مغلقة، إلا أبواب الفقر… وأفواه البنادق؟

أتعرف، يا وطني… ما أكثر مَن باعوك، وما أندر مَن أحبّوك بصدق! بعضهم رفع اسمك ليصل به إلى السلطة، وبعضهم لبس وجهك قناعًا ليمرّر الخيانة، وبعضهم ما زال يصرخ في الشوارع باسمك، لكن قلبه مربوط بحبل الدولار. نحن لا نعيش الحرب، بل نعيش الخذلان. نُقتل كل يوم، لا بالرصاص فقط، بل بالصمت. نُذبح، لا من العدو فقط، بل من أولئك الذين ظنناهم في صفنا. نحن أبناء الجنوب؛ ذاك الذي قُسّم، ثم وُحّد بالقوة، ثم ضاع بين فم الطاغية ويد المحتال. ظنّنا أن الوحدة وطن، فإذا هي قيد. جاؤوا بها سيفًا، لا عقدًا؛ فأكلت أرضنا، وكسرت ظهر كرامتنا، ثم رمونا في هامش التاريخ، كأننا خطأً مطبعيًا في كتاب الجمهورية.

واليوم… نتفرّج على الموت، يمرّ أمام أعيننا في شكل سعر صرف، وفي شكل أنبوبة غاز، وفي شكل طابور طويل للروتي، ونتساءل: هل هذا هو الوطن؟ هل هذه هي الدولة؟ هل هؤلاء هم أبناؤنا الذين وعدونا بالحلم؟ لم نعد نثق بأحد؛ كلهم لبسوا ملامحك، ثم خانوك. حتى أولئك الذين ادّعوا الثورة، تحوّلوا إلى تُجّار موت، يبيعون دمك على موائد السياسة. لكن، رغم كل شيء… ما زلتَ في القلب، يا وطني. ما زلتَ الجرحَ الذي لا نُريد أن يلتئم، كي لا ننسى. ما زلتَ الصوتَ في داخلنا… الذي إذا خفتَ العالم كلّه، عاد يقول:

"هنا وُلدت… وهنا سأموت واقفًا."

 #محمدوليدالسبعي